![]() |
أمل يوسف |
أمل يوسف *
(مسابقة ما يريده جيل الشباب من الإعلام العربي)
لا يمكنني تجاوز ذلك الكونشيرتو الذي لم ينغص قوة تحريكه لمشاعر الجماهير سوى سعال ذلك الرجل الكهل بين الفينة والأخرى، وكأنه يتعمد تخريب تلك الجلالة. لا يمكنني تجاوزه أبداً، حتى وأنا أضع قدمي في عتبة الدخول إلى الاستوديو لتسجيل حلقة عن القانون والإعلام.
كانت هناك فتاة سمراء تعزف على الكمان، كانت حليقة الشعر بملامح أنثوية جعلتها مثيرة جداً، وحين تفتح عينيها تتبعاً لارتفاع صوت المقطع الموسيقي، كنت أرى عينين واسعتين جميلتين. يعبر منهما اللحن حتى أصابعها، فالكمان.. ثم يقبع داخل قلوب المستمعين.
القانون والإعلام؟ تلك القوانين التي تقيدنا، تجعلنا كإعلاميين محكومين بالحقيقة القانونية لا الواقعية. متى يتحرر الإعلام لنخرج من الرمزية ونصرخ بأعلى صوتنا. هذا ما يتمناه كل الشعب، بما فيهم جيلنا جيل الشباب، أن يمتلكوا روح الثورة.
يقول صديقي معترضاً: سيكون العالم فوضوياً وليس حراً..
كانت تلك جملة تشبه كل جمل السياسيين: حق التظاهر مكفول، ولكن وفق القانون منعاً للفوضى.
ومن ذا الذي يعرف للقانون حدوداً، وهو الذي يسنه المنتصرون دائماً..
قلت لصديقي ذلك، ورأيته يجر نفساً من الأرجيلة وينظر للبعيد كما لو كان ينظر للمستقبل ثم قال وجانب أنفه الايمن يرتعش:
- انظر يا صديقي.. عليك أن تكون واقعياً.. هذا العالم تأسس على الصراع لا على السلام.. فإما أن تفعل مثلنا.. أي أن تقبل بقيوده، أو تتحول لثائر فوضوي وحينها سيلفظك النظام منبوذاً مدحوراً كسيراً خائباً.. وستدرك أنك كنت خاسراً طيلة الوقت..
ثم التفت نحوي وقال بعينين براقتين:
- لا يوجد شيء اسمه إعلام حر.. حتى ذكرك لهذه الأرجيلة في مقال سيعرضك لحجب مقالك..
ثم طلب لي كوب شاي..
لا بد أن يكون هناك إعلام حر، وحر أي خارج المؤسسة، إعلام مفلتٌ من الأنساق حقاً، وهارب من سيطرة القوى الجبارة السياسية أو حتى تلك المتلبسة بثوب مدني.
- أنت تحلم بالمستحيل؟
- ليس مستحيلاً.. يجب أن تمتلك الشعوب الوعي الكافي.. ولن يتحقق الوعي إلا بحرية الإعلام..
نحَّى الأرجيلة جانباً وقال:
- الروح الثورية ماتت.. وشبعت موتاً..هُزمت البشرية بهزيمة العرب.. وأقولها لك صدقاً..
نظرت إلى عينيه ورأيتهما مترقرقتين بالدمع.
نزعت سماعات الأذن وأغلقت هاتفي، وأنا أدلف إلى منزلي، كان الجو خانقاً في غرفتي.
إعلام حر؟!
بدا لي ذلك مثيراً للسخرية..
عيناها واسعتان جميلتان كبحيرتين من بحيرات سافنا أفريقيا حيث تحيط بها الأجمات الخضراء، وعنف البراري.. حيث الحرية.
يمنحنا الإعلام الحر قدرة على الهروب إلى الأمام.. مثل تلك البحيرات المفارقة لأجسادنا والمحايثة لأرواحنا.. فيه سنعزف الكونشيرتو عشرات المرات.. كونشيرتو الرفض والمقاومة والثورة.. كونشيرتو الأمل.. والحرية.. هذا ما نتمناه..
* محامٍ وناشط حقوقي، السودان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.