![]() |
عبدالحميد حسن |
عبدالحميد حسن *
(مسابقة تأثير هجرة العقول على الدول العربية وطرق استقطابها)
هُنالِك مفارقة غريبة في التَّاريخ؛ وهي أنَّ لحظات التَّوَهُّج الكبرى للحضارات هي مرحلة انكفاء على الذَّات وانشغال بالدَّاخل، بينما التَّطلُّع إلى العالَم يكون من أجل التَّعلُّم والبِناء في مرحلة الطَّريق إلى الحضارة. وهُنالِك مقولة جميلة مفادُها: "الذَّهاب إلى ذاتك تماماً يوصلك إلى الآخرين، بينما ذهابك إلى الآخرين يفقدك ذاتك والآخرين". ينطبق نصف المَقُولة الأَوَّل على لحظة توهُّج الحضارة الإسلاميَّة (في القرن الرابع الهجري مثلاً)؛ حيث كانت بغداد مركز الفِعْل الحضاري الَّذي يَتطلَّع له العالَم. بينما ينطبق النِّصف الثَّاني على عصر الانطفاء الَّذي نعيشُه؛ إذ تجذبنا مراكز فِعْل حضاري أخرى، نذهب إليها فنخسر ذاتنا ونُساهِم في انطفائِها أكثر، ونخسر الآخرين الَّذين لم يعد يهمُّهُم وجودُنا الآن، بَلْ ماضينا ودراسة لحظات تَوَهُّجِنا الأولى ووُجُودِنا الحقيقي.
إنَّ العقول المُبدِعة تحتاج إلى تُرْبة خصبة لتحتويها. لكنَّنا للأسف بعد انتهاء الاستعمار بتركاته الثَّقيلة!، ومع تعاقُب الأنظمة؛ لم يستطع حلم التَّنمية أن يُلامِس الواقع إلَّا في القليل من الدُّوَل العربيَّة. وإن استطاعت تحقيقه في الجَانب المعيشي فإنَّها تناست تماماً الاهتمام بتنمية القوى البشرية. لذلك قبل أن يحصل نزيف خارجي بهجرة العقول؛ حدث نزيف داخلي بتحييد الكثير منها، والاضطرار لكسب القُوت في مجال آخر! وذلك لعدم كفاية الإمكانات الَّتي تُهَيِّئ لها بِيئةً تَستوعبُها، وبسبب الأوضاع السياسيَّة والاقتصاديَّة المُتَرَدِّية. فحداها ذلك إلى أن تبحث عن مُتنفَّس في الشَّمال المُتقدِّم لتحقيق طموحاتها العلميَّة والإنسانيَّة، كما ورد في حكاية الطَّيِّب صالح (موسم الهجرة إلى الشَّمال).
يَشلُّ هذا النَّزيف حركة النُّمو والتَّطوُّر في الدول العربيَّة، ويجعلها تدور في حلقة مُفْرَغة!؛ يُشكِّلُها فقدان الثَّروات الإنسانيَّة المُنتِجة، وبالتَّالي غلَبة الاستهلاك والتَّبعيَّة السياسيَّة والتردِّي الاقتصادي. وحتَّى اهتزاز الهويَّة الثقافيَّة أمام موجات الحضارة الغربيَّة. وأخيراً تعويض نقص الكفاءات بالاستعانة بخبرات أجنبيَّة، ما يُشكِّل عبئاً جديداً على الاقتصاد، ومن ثمَّ مفاقمة التَّحَدِّيات على الصعد كافة لضَعف هذه الدُّوَل.
إنَّ أَوَّل ضِمادة توضع على هذا النَّزيف هي إعطاء هذه الطَّاقات المُبدِعة حَقَّها من الاهتمام والتَّقدير، بدءاً من تحسين أجورها الماديَّة. وأن تكون من الأولويَّات؛ وذلك في استراتيجيَّات بعيدة المدى لاستقطابها، تُعنى بإنشاء مراكز للبحوث التَّنمويَّة والعلميَّة ودعمها ماديّاً ومعنويّاً. وتشجيع الاتصال المُسْتَمِر بين العقول المهاجرة وبُلدانها؛ بإشراكهم في النَّشاطات العلميَّة والفكريَّة داخل الوطن. وتفعيل دبلوماسيَّة العلوم؛ عن طريق كفاءات تكون حَلْقة وَصل للتَّعاون العِلْمي بين أوطانهم ودُوَل المَهْجَر. مع إعطاء هامش للحُريَّات، وتوفير عناصر الاستقرار السِّياسي والاقتصادي والاجتماعي. وأَخيراً سَن التَّشريعات الَّتي تَحمي وتُشَجِّع هذه الكفاءات وتُحسِّن من المنظومة الكُلِّيَّة الَّتي تحتويها.
* طبيب، مهتم بالكتابة والتدوين، يمني مقيم في السودان
هُنالِك مفارقة غريبة في التَّاريخ؛ وهي أنَّ لحظات التَّوَهُّج الكبرى للحضارات هي مرحلة انكفاء على الذَّات وانشغال بالدَّاخل، بينما التَّطلُّع إلى العالَم يكون من أجل التَّعلُّم والبِناء في مرحلة الطَّريق إلى الحضارة. وهُنالِك مقولة جميلة مفادُها: "الذَّهاب إلى ذاتك تماماً يوصلك إلى الآخرين، بينما ذهابك إلى الآخرين يفقدك ذاتك والآخرين". ينطبق نصف المَقُولة الأَوَّل على لحظة توهُّج الحضارة الإسلاميَّة (في القرن الرابع الهجري مثلاً)؛ حيث كانت بغداد مركز الفِعْل الحضاري الَّذي يَتطلَّع له العالَم. بينما ينطبق النِّصف الثَّاني على عصر الانطفاء الَّذي نعيشُه؛ إذ تجذبنا مراكز فِعْل حضاري أخرى، نذهب إليها فنخسر ذاتنا ونُساهِم في انطفائِها أكثر، ونخسر الآخرين الَّذين لم يعد يهمُّهُم وجودُنا الآن، بَلْ ماضينا ودراسة لحظات تَوَهُّجِنا الأولى ووُجُودِنا الحقيقي.
إنَّ العقول المُبدِعة تحتاج إلى تُرْبة خصبة لتحتويها. لكنَّنا للأسف بعد انتهاء الاستعمار بتركاته الثَّقيلة!، ومع تعاقُب الأنظمة؛ لم يستطع حلم التَّنمية أن يُلامِس الواقع إلَّا في القليل من الدُّوَل العربيَّة. وإن استطاعت تحقيقه في الجَانب المعيشي فإنَّها تناست تماماً الاهتمام بتنمية القوى البشرية. لذلك قبل أن يحصل نزيف خارجي بهجرة العقول؛ حدث نزيف داخلي بتحييد الكثير منها، والاضطرار لكسب القُوت في مجال آخر! وذلك لعدم كفاية الإمكانات الَّتي تُهَيِّئ لها بِيئةً تَستوعبُها، وبسبب الأوضاع السياسيَّة والاقتصاديَّة المُتَرَدِّية. فحداها ذلك إلى أن تبحث عن مُتنفَّس في الشَّمال المُتقدِّم لتحقيق طموحاتها العلميَّة والإنسانيَّة، كما ورد في حكاية الطَّيِّب صالح (موسم الهجرة إلى الشَّمال).
يَشلُّ هذا النَّزيف حركة النُّمو والتَّطوُّر في الدول العربيَّة، ويجعلها تدور في حلقة مُفْرَغة!؛ يُشكِّلُها فقدان الثَّروات الإنسانيَّة المُنتِجة، وبالتَّالي غلَبة الاستهلاك والتَّبعيَّة السياسيَّة والتردِّي الاقتصادي. وحتَّى اهتزاز الهويَّة الثقافيَّة أمام موجات الحضارة الغربيَّة. وأخيراً تعويض نقص الكفاءات بالاستعانة بخبرات أجنبيَّة، ما يُشكِّل عبئاً جديداً على الاقتصاد، ومن ثمَّ مفاقمة التَّحَدِّيات على الصعد كافة لضَعف هذه الدُّوَل.
إنَّ أَوَّل ضِمادة توضع على هذا النَّزيف هي إعطاء هذه الطَّاقات المُبدِعة حَقَّها من الاهتمام والتَّقدير، بدءاً من تحسين أجورها الماديَّة. وأن تكون من الأولويَّات؛ وذلك في استراتيجيَّات بعيدة المدى لاستقطابها، تُعنى بإنشاء مراكز للبحوث التَّنمويَّة والعلميَّة ودعمها ماديّاً ومعنويّاً. وتشجيع الاتصال المُسْتَمِر بين العقول المهاجرة وبُلدانها؛ بإشراكهم في النَّشاطات العلميَّة والفكريَّة داخل الوطن. وتفعيل دبلوماسيَّة العلوم؛ عن طريق كفاءات تكون حَلْقة وَصل للتَّعاون العِلْمي بين أوطانهم ودُوَل المَهْجَر. مع إعطاء هامش للحُريَّات، وتوفير عناصر الاستقرار السِّياسي والاقتصادي والاجتماعي. وأَخيراً سَن التَّشريعات الَّتي تَحمي وتُشَجِّع هذه الكفاءات وتُحسِّن من المنظومة الكُلِّيَّة الَّتي تحتويها.
* طبيب، مهتم بالكتابة والتدوين، يمني مقيم في السودان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق