![]() |
خليل الجيزاوي |
رسم الكاتب الروائي المصري خليل الجيزاوي، وجيله واسطة عقد الحركة الإبداعية المصرية والعربية بين جيل العمالقة الكبار وبين الجيل الجديد، جيل الألفية، هو من ذلك الجيل الذي عاصر الكبار أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي والطاهر عبدالله وإحسان عبدالقدوس، وحنا مينا وعبدالرحمن منيف، وغيرهم من قائمة الكبار ليحمل هو وجيله جذوة الإبداع، حية نابضة في أعماله "يوميات مدرس البنات"، و"نشيد الخلاص"، و"أحلام العايشة"، والألاضيش"، و"خالتي بهية" و"أولاد الأفاعي" و"مواقيت الصمت" و"حبل الوداد" و"سيرة بني صالح" و"أيام بغداد" و"البومة السوداء".
عن مسيرته الإبدعية وأعماله والتحول في حياته من الشعر إلى القصة والرواية تحدث الجيزاوي لـ"باث أرابيا" في هذا الحوار بالقاهرة:
هجر الشعر
* بدأت مشوارك الإبداعي شاعراً، فما الذي جعلك تهجر الشعر وتسكن عالم القصة والرواية؟- بالفعل بدأت حياتي الأدبية بكتابة الشعر منتصف السبعينيات خلال دراستي بالمرحلة الثانوية، وحصلت على جوائز عدة بمسابقات المجلس الأعلى للشباب والرياضة، وجائزة المركز الأول (رحلة خمسة عشر يوما للأقصر وأسوان ضمن قطار الشباب)، وبالفعل حصلت عليها واستمعت بهذه الرحلة الممتازة، وتعود هجرة الشعر لسببين؛ الأول: تعرضت لظلم شديد بالعام الجامعي الأول عندما أعلن المجلس الأعلى للشباب والرياضة بالتعاون مع جامعة الأزهر عن مسابقة شعرية على مستوى شباب الجامعات بمناسبة العيد الألفي للأزهر عام 1981، زرت وصليت الجمعة بالجامع الأزهر، احتشدت وكتبت قصيدة من الشعر العمودي ثلاثين بيتاً وضبطت حروفها وأوزانها، وتقدمت لإدارة المسابقة، وعند إعلان الجائزة فوجئت أنني حصلت على المركز الثاني، والدكتور صابر عبدالدايم هو الفائز بالمركز الأول، فأعلنت احتجاجي وغضبي في حضور الدكتور عبدالأحد جمال الدين رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة، ورفضت استلام الجائزة في قاعة الإمام محمد عبده، وصرخت قائلاً: كيف لعضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر ويحمل درجة الدكتوراه أن يتقدم لمسابقة خاصة بطلاب الجامعة، وهنا نظر الدكتور عبدالأحد لهيئة المُحكّمين نظرة عتاب، وأمسك الميكرفون وتحدث كلاماً طيباً ووعدني بإجراء تحقيق، وبالطبع لم يحدث أي شيء.
السبب الثاني: بالعام الثاني لدراستي بقسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة عين شمس، نظمت جماعة للغة العربية بالكلية احتفالية شعرية بمناسبة يوم الشعر العالمي، وصعدت لإلقاء قصيدة شعرية، وكان يحضر بالصف الأول الدكاترة: عبدالقادر القط، عز الدين إسماعيل، محمد عبدالمطلب، صلاح فضل، رمضان عبدالتواب، وعند نزولي من المنصة أشار ناحيتي الدكتور القط، وكنت من تلامذته المقربين، جلست بجواره فقال: ما قلته أقرب للقصة القصيرة، هل تكتب القصة؟ أجبته: نعم، فهزّ رأسه للدكتور إسماعيل، وقال: هات ثلاث قصص بأقرب وقت، وباللقاء الثاني اختار واحدة، وراح يقرأ بعض جملها السردية بصوت عال، وعاد لكرسيه للوراء قائلاً: هذه جيدة، ثم أضاف أراك في القصة أفضل من الشعر. وانتهت المقابلة بالموافقة على نشر القصة التي اختارها للنشر بمجلة إبداع عام 1982 بعد قصة دكتور يوسف إدريس مباشرة.
* لو توقفنا مع البومة السوداء، أحدث أعمالك، وما حوته من شحنة صوفية، فهل هذا المنحى يُعدّ تحولاً أم له جذوره في صيرورة الجيزاوي؟
- سيطرة الماديات على أمورنا الحياتية ـ وهي ضرورة لا شك ـ تصيب الروح بشحّ العواطف وتبلد وجمود الأحاسيس والمشاعر، ومن هنا فتحتُ نافذة للروح علّها تُطيّب جروحها، والجانب الروحي عندي جذوره ممتدة منذ الطفولة، فقد ولدت بقرية قريبة من طنطا، وكان والدي رحمه الله يشجعني لأحضر معه مولد السيد البدوي كل عام، ووالدي رحمه الله ينتمي للطريقة الرفاعية، وله شيخ يضرب خيمته بأحد الشوارع الجانبية القريبة من مسجد السيد البدوي، وكان والدي يحمل معه زوادة من ثلاث قفف (جمع قفة وهي وعاء يصنع من سعف النخيل): قفة بها جدي ماعز مذبوح وجاهز للطبخ، وقفة مليئة بأرغفة الخبز الطري والناشف، وقفة مليئة بالقرص والمنين للفطور، هكذا عشت تفاصيل الجو الصوفي منذ سن السابعة، وعندما انتقلت للقاهرة للدراسة بالجامعة سكنت شارع الناصرية قريباً من جامع السيدة زينب، وحرصت على حضور مولد السيدة زينب، مع أولاد شيخ والدي للطريقة الرفاعية، بعد وفاة والدي وشيخه، وعن هذا الجو الروحاني بدأت ملامح الكتابة الصوفية تظهر برواية مواقيت الصمت التي كتبتها عن فترة حياتي بحي السيدة زينب، أما رواية البومة السوداء فشكّل الجانب الصوفي محوراً مهماً من محاورها الرئيسة؛ لهذا جاء لافتاً ومشرقاً مثل نور الشمس.
- تدور أحداث رواية البومة السوداء خلال فترة السبعينيات، وكانت قريتي خلال هذه الفترة لم يصل لها التيار الكهربائي بعد، وكانت تعاني مثل كل القرى المصرية من ثالوث: الفقر والجهل والمرض، وكان المتعلمون في قريتي نعرفهم بالاسم وعددهم لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، وكان طبيعياً أن تعربد الخرافة مع الظلام كل شوارع القرية، وفي الظلام تعيش الأشباح والمردة والعفاريت، ومع الجهل تكون سلطة المعتقدات الشعبية موازية لسلطة المعتقدات الدينية، بل ربما تفوقها؛ ولهذا يجد قارئ رواية البومة السوداء أن سلطة مشايخ السحر والشعوذة سلطة قادرة وحاكمة، بل تتحكم في حياة ومصائر شخوص الرواية البسطاء الذين لم يعرفوا الطريق للمدرسة، صحيح هذه السلطة تراجعت كثيراً بعد دخول التيار الكهربائي قريتنا أوائل الثمانينيات، وانتشار أجهزة التلفزيون وكثرة التحاق أبناء القرية بالمدارس والجامعات، لكن لا تزال سلطة المعتقدات الشعبية سلطة قادرة وحاكمة في مجتمع القرية حتى اليوم خاصة بين النساء.
- بدأت حياتي الوظيفية مدرساً للغة العربية، وظل يلح عليّ الأديب يوسف الشاروني ثلاث سنوات بالتغيير، خاصة بعد فوزي بجائزتين في سنة واحدة في نادي القصة بالقاهرة للقصة القصيرة والرواية ـ وكنت أسكن قريباً من الأديب يوسف الشاروني ـ ونجح الشاروني في أن يحصل لي على توقيع الفنان فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق، وهو يسلمني الجائزتين في نادي القصة، وهكذا عملت بإدارة النشر بالمجلس الأعلى للثقافة ندباً مدة عشر سنوات، حتى قامت ثورة 25 يناير 2011، فأُعلن عن مسابقة مدير عام، فتقدمت للمسابقة، والحمد لله حصلت أعلى الدرجات، وصدر القرار الوزاري بتعييني مديراً عاماً للشؤون الأدبية والمسابقات والجوائز، وبعد ثلاث سنوات، تم تعييني في موقع: وكيل الوزارة.. رئيس الإدارة المركزية للشؤون الأدبية والمسابقات والجوائز بالمجلس الأعلى للثقافة، كنت أذهب للعمل بالتاسعة صباحاً وبحكم المنصب كنت عضواً بالكثير من اللجان التي كان يمتد عملها حتى العاشرة مساء، وهكذا عطلني العمل العام كثيراً عن كتابة مشروعي الروائي، والحمد لله عندما وصلت سن التقاعد تفرغت تماماً للقراءة ومواصلة كتابة مشروعي الروائي، ومشكلة تفرغ الأديب لكتابة مشروعه الروائي مشكلة قديمة جديدة، عانى منها الأدباء، حتى إنني قرأت لنجيب محفوظ في أحد حواراته خلال الخمسينيات قوله: إنه على استعداد أن يسلم أي جهة كل ما يكتبه طول السنة مقابل مرتب 100 جنيه كل شهر، فقد كان محفوظ المُحرّك الرئيس لصدور قرار مشروع التفرغ الذي تحمس له يحيى حقي، وعرضه على يوسف السباعي، وذهبا الاثنان للدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة الذي أعجب بالمشروع وأصدر القرار الذي ينظم الحصول على منحة التفرغ التي يحصل عليها الأدباء، واتسعت الدائرة ليحصل الفنانون التشكيليون عليها. من طبيعتي لا أحب النصائح، لكن يمكنني أن أقول للأدباء الشباب ما أردّده بالندوات الأدبية: الميكانيكي الماهر يظلّ يتعلم أصول صنعته عشر سنوات حتى يصبح أسطى، فلماذا يرفض الأديب الشاب أن يتعلم أصول الكتابة من آباء السرد بعد أن يظلّ يقرأ منجزهم السردي خمس سنوات فقط؟!* بمن تأثر الجيزاوي ممن سبقوه ولمن يقرأ من جيل الشباب؟
- قرأت كثيرا لأدباء السرد عالميا وعربياً ومصرياً: تشيكوف وهمنجواي ثم بورخيس وماركيز، وصولاً إلى ميلان كونديرا وباولو كويلو، ومن العرب: حنا مينا وزكريا تامر وعبدالرحمن منيف، والطاهر وطار ومحمد شكري، ومن مصر نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي، وإبراهيم أصلان وعبدالحكيم قاسم، كل هؤلاء قرأت لهم وتأثرت بهم بدرجات متفاوتة، لكن تعلمت أن أضع كل ما أقرؤه في كفة الميزان، وما أكتبه في الكفة الأخرى، وأحرص على أن تكون كفتي الراجحة، حتى يكون لي صوتي السردي المتفرد.* لك تجربة كناشر إلى أي مدى يصلح الأديب أن يمارس حرفة النشر بكل تفاصيلها وهل تحبذها؟
- تجربة أفادتني بلا شك، تعلمتها بإدارة النشر بالمجلس الأعلى للثقافة، لكنها تجربة كثيرة المشاكل، فالتعامل مع الأدباء صعبة جداً ومرهقة؛ لأن الأدباء يجيدون الجدال، ولم يعد لي طاقة لهذا الجدال، وعندما جلست على مقعد وكيل الوزارة وكنت المسؤول عن إعطاء منح التفرغ، أغلقت دار النشر الخاصة أمام الأدباء المصريين، وكذلك عندما نجحت بانتخابات مجلس إدارة نقابة اتحاد كُتّاب مصر بتشجيع الكاتب محمد سلماوي لأتولى رئاسة لجنة النشر، يومها أعلنت للمرة الثانية غلق دار النشر، حتى لا أكون مضغة في أفواه الأدباء، وأعتقد أن الأديب غير صالح لممارسة العمل التجاري؛ لأنه يحتاج إلى تفرغ كامل، والأولى والأجدى أن يتفرغ الأديب لمشروع الكتابة.
* كتب الجيزاوي كمبدع النقد فما الذي يميز المبدع حين يكتب النقد عن الناقد المتفرغ للنقد فقط من واقع تجربتك؟
- أمارس النقد من باب الإعجاب لما أقرؤه، وأكتب النقد من منظور نظرية التلقي، ودوماً أردّد إنها رؤية مبدع لا ناقد، ولقد رفضت دعوة الدكتور صلاح رزق رحمه الله أن أسجّل معه بكلية دار العلوم جامعة القاهرة رسالتي الماجستير والدكتوراه، عندما قرأ دراستي النقدية ـ صفحة كاملة بجريدة القاهرة ـ عن الكاتب يوسف الشاروني، وفي المكالمة الهاتفية ظللت أعدّد للدكتور رزق أسباب الرفض: وجدت الكثير من النقاد الأكاديميين طغى الحقل النقدي وأضعف عندهم حقل الإبداع، مثل الدكتور عز الدين إسماعيل الذي بدأ شاعراً، ومثله أستاذي الدكتور عبدالقادر القط ـ عنده ديوان شعر بعنوان: ذكريات شباب ـ وعندما تسمع اسم إسماعيل والقط على الفور تتأكد كلمة: الناقد لا الشاعر.
- يُحزننّي تراجع نسبة شراء الكتب بين الشباب والكبار في ظل ارتفاع أسعار الورق وأحبار الطباعة، ومفردات صناعة الكتاب معظمها تعتمد على الاستيراد وارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري، واشتركت كناشر بالكثير من دورات معرض القاهرة للكتاب، وكانت محصلة البيع لا تتناسب ما يتم صرفه على تأجير الجناح وأجر العامل الذي يقف من التاسعة صباحا حتى التاسعة مساء، وأصحاب الكتب المعروضة لا يفكرون بعمل دعاية لأعمالهم الأدبية مثل حفلات التوقيع، وأبتسم حين أتذكر مقولة صاحب المطبعة الذي أطبع لديه وهو يقول: الأدباء أصحابك يظنون أن الناس ستقف طوابير لشراء كتبهم، مثلما يتزاحم الناس طوابير لشراء أرغفة الخبز.
* احتفت الدراسات الأكاديمية بأعمال الجيزاوي في رسائل الماجستير والدكتوراه، ماذا الذي يمثله ذلك لك وما الذي يفرضه عليك كمبدع؟
- بالفعل تمت مناقشة ثلاث رسائل جامعية عن مشروعي الروائي بالجامعات المصرية، وفي الطريق ثلاث رسائل أخر، وهذا الاحتفاء والدرس النقدي وبإشراف أساتذة للنقد الأدبي سواء بكليات دار العلوم أو بأقسام اللغة العربية بكليات الآداب، يعطيك إشارة أنني أسير على الطريق الصحيح، وأن مشروعي الروائي مُحفّز للبحث والدرس الأكاديمي، وأسمع صوت أحد أبناء قريتي ـ الذي يتابعني على الفيسبوك ـ يقول بالتليفون: سعيد قوى يا أستاذ أن ما تكتبه عن قريتنا يُدرّس بالجامعة، وهذا النجاح والتقدير النقدي يفرض عليّ كمبدع المزيد من الحفر بالكتابة حول مشروعي الروائي.
احتجاج السرد
* الألاضيش، أولاد الأفاعي، البومة السوداء، عناوين لأعمالك تبدو فيها وكأنك تجلد المجتمع. إلى أي مدى ترى أن الأديب قادر على تغيير ثقافة المجتمع أم هو مجرد ناقل وناقد لها؟
- القصص والحكايات كثيرة، اجلس بجوار حارس عمارة عجوز، سوف يقص عليك حكايات كثيرة، أو اركب سيارة أجرة مع سائق عجوز ستسمع منه حكايات عجيبة مدهشة، أما الكتابة الفنية عكس ذلك، فالكاتب النابه هو الذي يختار من الواقع ما يتناسب مع الفن القصصي ليحمل رسالته، وعندما تراودني فكرة للكتابة، أظل ألوكها وأمضغها أشهراً عدة، وأقلّبها يميناً ويساراً برأسي، حتى إذا زاد الفيضان أجلس وأخطط عوالمها الرئيسة كما تعلمت من عميد الرواية العربية نجيب محفوظ الذي جلست إليه أكثر من مرة، وأحرص على تحميل ما أكتبه الكثير من الأسئلة، دون خطابة أو صخب بصوت هادئ، فقد تعلمت أن تكون كتابة السرد احتجاجاً ونقداً للواقع لكن بصوت هامس، وبالفعل يمكن للأديب أن يسهم في تغيير ثقافة المجتمع.. وكان محفوظ سباقاً، ففي ثلاثيته الروائية فضح ازدواجية السيد عبد الجواد، الذي يمارس الطهر والشفافية وأنه نموذج للزوج والأب الحازم طول النهار في بيته، وفي الليل "سكير وهلاس" يمسك الطبلة للراقصة، إذن السرد هو رصد للإشكاليات التي يعاني منها المجتمع، ووضعها على مائدة الحوار للدرس والتحليل والمناقشة، ووظيفة السارد النابه إثارة الأسئلة وليس الإجابة عليها، لأن وظيفة الأديب نقد المجتمع وتعريته.* لو توقفنا مع البومة السوداء، أحدث أعمالك، وما حوته من شحنة صوفية، فهل هذا المنحى يُعدّ تحولاً أم له جذوره في صيرورة الجيزاوي؟
- سيطرة الماديات على أمورنا الحياتية ـ وهي ضرورة لا شك ـ تصيب الروح بشحّ العواطف وتبلد وجمود الأحاسيس والمشاعر، ومن هنا فتحتُ نافذة للروح علّها تُطيّب جروحها، والجانب الروحي عندي جذوره ممتدة منذ الطفولة، فقد ولدت بقرية قريبة من طنطا، وكان والدي رحمه الله يشجعني لأحضر معه مولد السيد البدوي كل عام، ووالدي رحمه الله ينتمي للطريقة الرفاعية، وله شيخ يضرب خيمته بأحد الشوارع الجانبية القريبة من مسجد السيد البدوي، وكان والدي يحمل معه زوادة من ثلاث قفف (جمع قفة وهي وعاء يصنع من سعف النخيل): قفة بها جدي ماعز مذبوح وجاهز للطبخ، وقفة مليئة بأرغفة الخبز الطري والناشف، وقفة مليئة بالقرص والمنين للفطور، هكذا عشت تفاصيل الجو الصوفي منذ سن السابعة، وعندما انتقلت للقاهرة للدراسة بالجامعة سكنت شارع الناصرية قريباً من جامع السيدة زينب، وحرصت على حضور مولد السيدة زينب، مع أولاد شيخ والدي للطريقة الرفاعية، بعد وفاة والدي وشيخه، وعن هذا الجو الروحاني بدأت ملامح الكتابة الصوفية تظهر برواية مواقيت الصمت التي كتبتها عن فترة حياتي بحي السيدة زينب، أما رواية البومة السوداء فشكّل الجانب الصوفي محوراً مهماً من محاورها الرئيسة؛ لهذا جاء لافتاً ومشرقاً مثل نور الشمس.
عوالم السحر
* اشتبكت في البومة السوداء مع عوالم السحر والشعوذة ذلك الميراث الثقيل في مجتمعاتنا، لماذا على الرغم من كل ما تشهده مجتمعاتنا من تمدن يظل هذا الميراث حياً نابضاً بالجهل متعارضاً مع العلم والمنطق والدين نفسه؟- تدور أحداث رواية البومة السوداء خلال فترة السبعينيات، وكانت قريتي خلال هذه الفترة لم يصل لها التيار الكهربائي بعد، وكانت تعاني مثل كل القرى المصرية من ثالوث: الفقر والجهل والمرض، وكان المتعلمون في قريتي نعرفهم بالاسم وعددهم لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، وكان طبيعياً أن تعربد الخرافة مع الظلام كل شوارع القرية، وفي الظلام تعيش الأشباح والمردة والعفاريت، ومع الجهل تكون سلطة المعتقدات الشعبية موازية لسلطة المعتقدات الدينية، بل ربما تفوقها؛ ولهذا يجد قارئ رواية البومة السوداء أن سلطة مشايخ السحر والشعوذة سلطة قادرة وحاكمة، بل تتحكم في حياة ومصائر شخوص الرواية البسطاء الذين لم يعرفوا الطريق للمدرسة، صحيح هذه السلطة تراجعت كثيراً بعد دخول التيار الكهربائي قريتنا أوائل الثمانينيات، وانتشار أجهزة التلفزيون وكثرة التحاق أبناء القرية بالمدارس والجامعات، لكن لا تزال سلطة المعتقدات الشعبية سلطة قادرة وحاكمة في مجتمع القرية حتى اليوم خاصة بين النساء.
تحولات الحياة والإبداع
* شهدت حياة الأديب خليل الجيزاوي تحولات كثيرة من الوظيفة في التربية والتعليم إلى الكتابة الصحفية والعمل بالمجلس الأعلى للثقافة حتى صرت وكيلاً للوزارة، وصولاً إلى التفرغ، كيف أثرت هذه المسارات في مسيرتك الإبداعية؟ وما النصيحة التي تقدمها لكل من أراد طريق الإبداع من الشباب؟- بدأت حياتي الوظيفية مدرساً للغة العربية، وظل يلح عليّ الأديب يوسف الشاروني ثلاث سنوات بالتغيير، خاصة بعد فوزي بجائزتين في سنة واحدة في نادي القصة بالقاهرة للقصة القصيرة والرواية ـ وكنت أسكن قريباً من الأديب يوسف الشاروني ـ ونجح الشاروني في أن يحصل لي على توقيع الفنان فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق، وهو يسلمني الجائزتين في نادي القصة، وهكذا عملت بإدارة النشر بالمجلس الأعلى للثقافة ندباً مدة عشر سنوات، حتى قامت ثورة 25 يناير 2011، فأُعلن عن مسابقة مدير عام، فتقدمت للمسابقة، والحمد لله حصلت أعلى الدرجات، وصدر القرار الوزاري بتعييني مديراً عاماً للشؤون الأدبية والمسابقات والجوائز، وبعد ثلاث سنوات، تم تعييني في موقع: وكيل الوزارة.. رئيس الإدارة المركزية للشؤون الأدبية والمسابقات والجوائز بالمجلس الأعلى للثقافة، كنت أذهب للعمل بالتاسعة صباحاً وبحكم المنصب كنت عضواً بالكثير من اللجان التي كان يمتد عملها حتى العاشرة مساء، وهكذا عطلني العمل العام كثيراً عن كتابة مشروعي الروائي، والحمد لله عندما وصلت سن التقاعد تفرغت تماماً للقراءة ومواصلة كتابة مشروعي الروائي، ومشكلة تفرغ الأديب لكتابة مشروعه الروائي مشكلة قديمة جديدة، عانى منها الأدباء، حتى إنني قرأت لنجيب محفوظ في أحد حواراته خلال الخمسينيات قوله: إنه على استعداد أن يسلم أي جهة كل ما يكتبه طول السنة مقابل مرتب 100 جنيه كل شهر، فقد كان محفوظ المُحرّك الرئيس لصدور قرار مشروع التفرغ الذي تحمس له يحيى حقي، وعرضه على يوسف السباعي، وذهبا الاثنان للدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة الذي أعجب بالمشروع وأصدر القرار الذي ينظم الحصول على منحة التفرغ التي يحصل عليها الأدباء، واتسعت الدائرة ليحصل الفنانون التشكيليون عليها. من طبيعتي لا أحب النصائح، لكن يمكنني أن أقول للأدباء الشباب ما أردّده بالندوات الأدبية: الميكانيكي الماهر يظلّ يتعلم أصول صنعته عشر سنوات حتى يصبح أسطى، فلماذا يرفض الأديب الشاب أن يتعلم أصول الكتابة من آباء السرد بعد أن يظلّ يقرأ منجزهم السردي خمس سنوات فقط؟!* بمن تأثر الجيزاوي ممن سبقوه ولمن يقرأ من جيل الشباب؟
- قرأت كثيرا لأدباء السرد عالميا وعربياً ومصرياً: تشيكوف وهمنجواي ثم بورخيس وماركيز، وصولاً إلى ميلان كونديرا وباولو كويلو، ومن العرب: حنا مينا وزكريا تامر وعبدالرحمن منيف، والطاهر وطار ومحمد شكري، ومن مصر نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي، وإبراهيم أصلان وعبدالحكيم قاسم، كل هؤلاء قرأت لهم وتأثرت بهم بدرجات متفاوتة، لكن تعلمت أن أضع كل ما أقرؤه في كفة الميزان، وما أكتبه في الكفة الأخرى، وأحرص على أن تكون كفتي الراجحة، حتى يكون لي صوتي السردي المتفرد.* لك تجربة كناشر إلى أي مدى يصلح الأديب أن يمارس حرفة النشر بكل تفاصيلها وهل تحبذها؟
- تجربة أفادتني بلا شك، تعلمتها بإدارة النشر بالمجلس الأعلى للثقافة، لكنها تجربة كثيرة المشاكل، فالتعامل مع الأدباء صعبة جداً ومرهقة؛ لأن الأدباء يجيدون الجدال، ولم يعد لي طاقة لهذا الجدال، وعندما جلست على مقعد وكيل الوزارة وكنت المسؤول عن إعطاء منح التفرغ، أغلقت دار النشر الخاصة أمام الأدباء المصريين، وكذلك عندما نجحت بانتخابات مجلس إدارة نقابة اتحاد كُتّاب مصر بتشجيع الكاتب محمد سلماوي لأتولى رئاسة لجنة النشر، يومها أعلنت للمرة الثانية غلق دار النشر، حتى لا أكون مضغة في أفواه الأدباء، وأعتقد أن الأديب غير صالح لممارسة العمل التجاري؛ لأنه يحتاج إلى تفرغ كامل، والأولى والأجدى أن يتفرغ الأديب لمشروع الكتابة.
- أمارس النقد من باب الإعجاب لما أقرؤه، وأكتب النقد من منظور نظرية التلقي، ودوماً أردّد إنها رؤية مبدع لا ناقد، ولقد رفضت دعوة الدكتور صلاح رزق رحمه الله أن أسجّل معه بكلية دار العلوم جامعة القاهرة رسالتي الماجستير والدكتوراه، عندما قرأ دراستي النقدية ـ صفحة كاملة بجريدة القاهرة ـ عن الكاتب يوسف الشاروني، وفي المكالمة الهاتفية ظللت أعدّد للدكتور رزق أسباب الرفض: وجدت الكثير من النقاد الأكاديميين طغى الحقل النقدي وأضعف عندهم حقل الإبداع، مثل الدكتور عز الدين إسماعيل الذي بدأ شاعراً، ومثله أستاذي الدكتور عبدالقادر القط ـ عنده ديوان شعر بعنوان: ذكريات شباب ـ وعندما تسمع اسم إسماعيل والقط على الفور تتأكد كلمة: الناقد لا الشاعر.
وضع القراءة محزن
* نعيش هذه الأيام عرس الكتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب في رأيك ما أهم المنغصات أمام القراءة وكيف ترى المعرض من خلال رحلتك الطويلة معه أديباً ومسؤولاً وصحفياً وناشراً؟- يُحزننّي تراجع نسبة شراء الكتب بين الشباب والكبار في ظل ارتفاع أسعار الورق وأحبار الطباعة، ومفردات صناعة الكتاب معظمها تعتمد على الاستيراد وارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري، واشتركت كناشر بالكثير من دورات معرض القاهرة للكتاب، وكانت محصلة البيع لا تتناسب ما يتم صرفه على تأجير الجناح وأجر العامل الذي يقف من التاسعة صباحا حتى التاسعة مساء، وأصحاب الكتب المعروضة لا يفكرون بعمل دعاية لأعمالهم الأدبية مثل حفلات التوقيع، وأبتسم حين أتذكر مقولة صاحب المطبعة الذي أطبع لديه وهو يقول: الأدباء أصحابك يظنون أن الناس ستقف طوابير لشراء كتبهم، مثلما يتزاحم الناس طوابير لشراء أرغفة الخبز.
- بالفعل تمت مناقشة ثلاث رسائل جامعية عن مشروعي الروائي بالجامعات المصرية، وفي الطريق ثلاث رسائل أخر، وهذا الاحتفاء والدرس النقدي وبإشراف أساتذة للنقد الأدبي سواء بكليات دار العلوم أو بأقسام اللغة العربية بكليات الآداب، يعطيك إشارة أنني أسير على الطريق الصحيح، وأن مشروعي الروائي مُحفّز للبحث والدرس الأكاديمي، وأسمع صوت أحد أبناء قريتي ـ الذي يتابعني على الفيسبوك ـ يقول بالتليفون: سعيد قوى يا أستاذ أن ما تكتبه عن قريتنا يُدرّس بالجامعة، وهذا النجاح والتقدير النقدي يفرض عليّ كمبدع المزيد من الحفر بالكتابة حول مشروعي الروائي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق