![]() |
عيادي العامري |
عيادي العامري *
(مسابقة طرق تطوير التعليم العالي لتتناسب المخرجات مع سوق العمل)
التعليم في عصر الذكاء الاصطناعي:
يطل محرك البحث جوجل برأسه، مع كل محاضرة تلقى في جامعات "سياق" دولة الاستقلال، ضاحكاً بطريقة هستيرية من كل الذين ما زال لديهم وهم أن معلوماتهم الخام يمكن أن تضيف شيئاً جديداً لدى الطالب، نقصد هنا بالمعلومات الخام ذلك الضرب السكولستيكي الذي يمكن أن يكون فيه الناقل فاعلاً سلبياً يحفظ المعلومات كما وجدت في بطون الكتب وينقلها في شكل دروس ومحاضرات متعللاً بقصور وجودي أو إبستمولوجي معين يمنع به نفسه وغيره من أن يمر من الإخبار عما قال الفلاسفة مثلاً في سياق درس عن الفلسفة إلى تأويل معان نظرية وإمكانات عملية تجد لها طرافة تسمح للمتعلم ألا يضع سماعات الموسيقى في أذنيه وأن يفتح صفحة هذا الموقع المعلوماتي الرهيب ويعرف كماً من المعلومات تفوت بأطنان ما يمكن أن يقوله هذا الناقل السالب للمعلومات الخام.
ليس غياب المعلومات هو ما يمثل إشكالاً لهذه الجامعات كمؤسسات فقدت جزءاً كبيراً من مشروعيتها لدى طلبتها كما أساتذتها، إنما هو الملل الذي يصيب الجميع حيث يدخل الكل في نوع من العمل المسرحي على الذات الجامعية التي تظن أن الأمور بخير ولا داعي لأي مراجعات جذرية من الداخل وعلى البنية الاجتماعية والسياسية التي تقول "ما أجمل الصروح العلمية التي نملك.. إنها جزء أصيل من إبهار العالم".
هذا الملل هو الشعور الذي يتعمق يوماً بعد يوم! فثمة رتابة عميقة تجعل من الجميع داخل الفضاء الجامعي يعرف مسبقاً ما سيقال وكيف يقال ومتى يقال، إنها تراجيديا العبث المسرحي الذي يلامس بنية النظام الجامعي في سردية باثولوجية لنظام تدبير جامعي لا يزال غير قادر على استيعاب التجاوز التكنولوجي الذي جعل من رهانات جامعات سياق "دولة الاستقلال" تفقد أسباب وجودها من الناحية المعرفية والإيتيقية.
المستوى المعرفي:
تتشكل الأزمة المعرفية في الجامعة داخل إطار مرتبط بالتغير الذي تطرحه السهولة التقنية للوصول للمعلومات، حيث لم يعد ممكناً من ناحية المضمون التعويل حصراً على تخصيص حيز زمني كبير في الوقت المخصص لنقل معلومات يمكن لطالب الحصول عليها عبر الإنترنت بل يمكن له تحصيل أكثر منها من الناحية الكمية والنوعية أيضاً، وبالتالي يصبح دور الأستاذ يقتصر على تطوير ملكات أخرى مرتبطة بجعل المادة التي يقوم بتدريسها تدرباً على القدرة التأليفية لمجهود مجموع الطلبة من ناحية بحثهم كماً ونوعاً وذلك داخل إطار تفاعلي نقدي ينطلق من معالجات راهنية لها علاقة باستراتيجية الأقسام الجامعية المتنوعة ومن ثمة منح أكبر حيز زمني من الوقت الدراسي لنقاش المعطيات وخلق التوليفات الممكنة.
وبالتالي الحصول على أقل مجهود ذهني للفرد وللمجموعة في قسم معين أو في عمل مشترك بين مجموعة من الأقسام، وهذا ما سيضمن تحقيق نجاعة عملية متعلقة بتطوير معارف وتقنيات الطلبة بالكثافة اللازمة وبالتجدد المعرفي المستمر، إضافة إلى تطوير العلاقات الذاتية والموضوعية للجماعة العلمية بما يؤسس لإيتيقا التضامن التي سنخصص لها فضاء خاصاً في هذا المقال.
ثمة جانب آخر يجب الإشارة إليه في علاقة بالمعرفة في ضوء التطور التكنولوجي الذي أسس لسهولة معينة في إيجاد المعطيات والمعلومات، وهي المتعلقة بآليات العمل داخل الحقول المعرفية التي تُدرَّس في جامعاتنا، من العلوم الإنسانية وصولاً إلى العلوم الصلبة، وهنا الحديث عن الجانب المتعلق في الاستثمار في الجانب البيداغوجي والنفسي للأعمال السمعية البصرية (أفلام "واقعية وتصويرية"، وثائقيات، محاضرات مسجلة، لوحات فنية الخ)، فمن الناحية البيداغوجية يمثل المجال السمعي البصري حيزاً أساسياً في تسهيل عملية بناء المعرفة والإدراك المكثف والمركب، ومن الناحية النفسية يمثل العمل الفني في حالات الأفلام مثلاً إمكاناً تكثيفياً يسهل عمليات بناء علاقة سليمة بين من يشتركون في معايشة فضاءات رمزية مشتركة تخلق تراكمياً وحدة للفضاء الذهني والنفسي.
المستوى الإيتيقي:
ما سبق وذكرناه يفتح المجال نحو مرور الفاعلين الجامعين من أفق العلاقات الزبونية المبنية في الأساس على التملق وعلى النفاق الذي يؤسس لازدواجية المعلن والمخفي وهذا الشكل من العلاقات المسمومة هو المغذي لغرائز الانحطاط مثل الضغينة والحقد والنميمة والرغبة في الانتقام التي تسود في خبايا المسرح الجامعي وتطل برأسها بين الحين والآخر، إلى أفق جديد يتشكل من جزأين.
في مرحلة أولى: التوقف عن الاكتفاء بممارسة "المسرح الجامعي" الراهن، هذا التوقف ليس مجرد قرار إرادوي وإن كان اقتداراً معرفياً وإيتيقياً (عندما نقول إيتيقي هنا لأن الأمر سيتعلق في مرحلة أولى بالاستثنائات التي أفرزتها البنية)، بل هو أيضاً تضحية في حدود معينة بامتيازات الحاضر المسرحي من أجل امتيازات أفق "المعيش الجامعي".
هذا المعيش الجامعي الإيتيقي الذي نسعى لطرح بوادره الأولى، هو تلك القدرة على تحقيق هدفين رئيسين يمكناننا من تأسيس هذا البيت من جديد.
فمن ناحية هو يؤسس لضدية تعقيدية تقطع مع التصور الفوردي للاختصاصات الجامعية، فلا يمكن بأي حال، وفي حدود ما يمكن أن نعاينه، أن تستمر عمليات العزل المعلوماتية والمعرفية التي تؤسس لها سردية التخصص، وإن كنا هنا نطرح المسألة من ناحية تصور مؤسساتي للتعقيد، بحيث تبدأ عملية التشبيك بين الاختصاصات بطريقة تصاعدية، مما يطرح عملية توحيد الاستراتيجية البحثية للعقل الجامعي، هذا التوحيد الذي نطرحه يتجسد عبر طرح إيتيقا الاشتراك والمشاركة بدلاً عن صنمية تقني المعرفة وبدلاً عن نظام نجاح أو فشل فرد بعينه، هنا بالذات تمنحنا إيتيقا الاشتراك في المعيش الجامعي نجاحاً جماعياً أو فشلاً جماعياً، لسنا أفراداً في سباق مع بعضنا بعضاً وإنما جماعة بحثية تسابق عجزها وتخلفها وتؤسس لخروج استثنائي من مأزق بنيوي، إضافة إلى تحصيل تعقيد معرفي مؤسستي ينعكس مع الوقت في الأغلبية الكمية لأفراد المؤسسة.
الهدف الثاني الذي يمكن أن يحققه هذا المعيش الإيتيقي الذي نطرح إرهاصاته الأولى يتمثل في التأسيس لسياق جديد للبنية الجامعية من الناحية السياسية، نطرح هنا السياسة في ضربين من فضاءات الحركة، هذه السياسة الجامعية لها جذرها المتعلق بتأصيل وأصالة المحلي وتكثيف انتمائه للفضاء المادي والمعنوي لسرديته بإشكالياتها وخصوصيتها وجذرها الثاني المتعلق بتأسيس الانتماء للفضاء الإمبراطوري المضاد حيث تستطيع البنية الجديدة للمعيش الجامعي اختراع الجمهور الجامعي بما هو فرادة وتفرد داخل شراكة المعيش المعرفي وأصالة تكثيف وتوليد المعاني، هذا الجمهور الجامعي هو القطيعة الانطلوجية مع الشعب الجامعي الذي تنتجه البنية الحالية.
الخاتمة:
أن نعيد اختراع جامعاتنا اليوم، هو بالأساس أن نعيد اختراع الإمكان النظري والعملي للتدرب على الانتماء إلى أفق المقاومة الحيوية، هذي المقاومة هي إعادة اختراع لنمط جديد من العلاقات مع التقنية ومع الزمن ومع مصائرنا، حيث لا يمكن بأي حال اليوم أن نكتفي بالمواصلة في اعتبار الأمور بخير ما دام الجميع قادراً على التواطئ مع الكائن، هذا التواطؤ المسرحي يخفي سراديب من البارود القيمي الذي لا يؤسس إلا لضربٍ من مواصلة العيش في الزمن الدائري، هذا الزمن الدائري حيث لا أمس مضى ولا غداً سيأتي ولا حاضراً يفصل ويصل بينهما.. نحن نعيش الأبدية منذ زمن بعيد، ربما هي أبدية على شاكلة "انتظار غودو" الذي سيأتي فقط عندما نكف عن انتظاره ونمضي لغدنا واثقين بصدق الخيال والمعجزة.
* بكالوريوس فلسفة، تونس
ثمة جانب آخر يجب الإشارة إليه في علاقة بالمعرفة في ضوء التطور التكنولوجي الذي أسس لسهولة معينة في إيجاد المعطيات والمعلومات، وهي المتعلقة بآليات العمل داخل الحقول المعرفية التي تُدرَّس في جامعاتنا، من العلوم الإنسانية وصولاً إلى العلوم الصلبة، وهنا الحديث عن الجانب المتعلق في الاستثمار في الجانب البيداغوجي والنفسي للأعمال السمعية البصرية (أفلام "واقعية وتصويرية"، وثائقيات، محاضرات مسجلة، لوحات فنية الخ)، فمن الناحية البيداغوجية يمثل المجال السمعي البصري حيزاً أساسياً في تسهيل عملية بناء المعرفة والإدراك المكثف والمركب، ومن الناحية النفسية يمثل العمل الفني في حالات الأفلام مثلاً إمكاناً تكثيفياً يسهل عمليات بناء علاقة سليمة بين من يشتركون في معايشة فضاءات رمزية مشتركة تخلق تراكمياً وحدة للفضاء الذهني والنفسي.
المستوى الإيتيقي:
ما سبق وذكرناه يفتح المجال نحو مرور الفاعلين الجامعين من أفق العلاقات الزبونية المبنية في الأساس على التملق وعلى النفاق الذي يؤسس لازدواجية المعلن والمخفي وهذا الشكل من العلاقات المسمومة هو المغذي لغرائز الانحطاط مثل الضغينة والحقد والنميمة والرغبة في الانتقام التي تسود في خبايا المسرح الجامعي وتطل برأسها بين الحين والآخر، إلى أفق جديد يتشكل من جزأين.
في مرحلة أولى: التوقف عن الاكتفاء بممارسة "المسرح الجامعي" الراهن، هذا التوقف ليس مجرد قرار إرادوي وإن كان اقتداراً معرفياً وإيتيقياً (عندما نقول إيتيقي هنا لأن الأمر سيتعلق في مرحلة أولى بالاستثنائات التي أفرزتها البنية)، بل هو أيضاً تضحية في حدود معينة بامتيازات الحاضر المسرحي من أجل امتيازات أفق "المعيش الجامعي".
هذا المعيش الجامعي الإيتيقي الذي نسعى لطرح بوادره الأولى، هو تلك القدرة على تحقيق هدفين رئيسين يمكناننا من تأسيس هذا البيت من جديد.
فمن ناحية هو يؤسس لضدية تعقيدية تقطع مع التصور الفوردي للاختصاصات الجامعية، فلا يمكن بأي حال، وفي حدود ما يمكن أن نعاينه، أن تستمر عمليات العزل المعلوماتية والمعرفية التي تؤسس لها سردية التخصص، وإن كنا هنا نطرح المسألة من ناحية تصور مؤسساتي للتعقيد، بحيث تبدأ عملية التشبيك بين الاختصاصات بطريقة تصاعدية، مما يطرح عملية توحيد الاستراتيجية البحثية للعقل الجامعي، هذا التوحيد الذي نطرحه يتجسد عبر طرح إيتيقا الاشتراك والمشاركة بدلاً عن صنمية تقني المعرفة وبدلاً عن نظام نجاح أو فشل فرد بعينه، هنا بالذات تمنحنا إيتيقا الاشتراك في المعيش الجامعي نجاحاً جماعياً أو فشلاً جماعياً، لسنا أفراداً في سباق مع بعضنا بعضاً وإنما جماعة بحثية تسابق عجزها وتخلفها وتؤسس لخروج استثنائي من مأزق بنيوي، إضافة إلى تحصيل تعقيد معرفي مؤسستي ينعكس مع الوقت في الأغلبية الكمية لأفراد المؤسسة.
الهدف الثاني الذي يمكن أن يحققه هذا المعيش الإيتيقي الذي نطرح إرهاصاته الأولى يتمثل في التأسيس لسياق جديد للبنية الجامعية من الناحية السياسية، نطرح هنا السياسة في ضربين من فضاءات الحركة، هذه السياسة الجامعية لها جذرها المتعلق بتأصيل وأصالة المحلي وتكثيف انتمائه للفضاء المادي والمعنوي لسرديته بإشكالياتها وخصوصيتها وجذرها الثاني المتعلق بتأسيس الانتماء للفضاء الإمبراطوري المضاد حيث تستطيع البنية الجديدة للمعيش الجامعي اختراع الجمهور الجامعي بما هو فرادة وتفرد داخل شراكة المعيش المعرفي وأصالة تكثيف وتوليد المعاني، هذا الجمهور الجامعي هو القطيعة الانطلوجية مع الشعب الجامعي الذي تنتجه البنية الحالية.
الخاتمة:
أن نعيد اختراع جامعاتنا اليوم، هو بالأساس أن نعيد اختراع الإمكان النظري والعملي للتدرب على الانتماء إلى أفق المقاومة الحيوية، هذي المقاومة هي إعادة اختراع لنمط جديد من العلاقات مع التقنية ومع الزمن ومع مصائرنا، حيث لا يمكن بأي حال اليوم أن نكتفي بالمواصلة في اعتبار الأمور بخير ما دام الجميع قادراً على التواطئ مع الكائن، هذا التواطؤ المسرحي يخفي سراديب من البارود القيمي الذي لا يؤسس إلا لضربٍ من مواصلة العيش في الزمن الدائري، هذا الزمن الدائري حيث لا أمس مضى ولا غداً سيأتي ولا حاضراً يفصل ويصل بينهما.. نحن نعيش الأبدية منذ زمن بعيد، ربما هي أبدية على شاكلة "انتظار غودو" الذي سيأتي فقط عندما نكف عن انتظاره ونمضي لغدنا واثقين بصدق الخيال والمعجزة.
* بكالوريوس فلسفة، تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق