إِنَّ النَّصَّ الْعَرَبِيَّ الْمَقْرُوْءَ وَالْمَكْتُوْبَ، وَإِنْ بَدَا سَهْلاً يَسِيْراً عَلَى الْأَلْسِنَةِ، إِلَّا أَنَّهُ جدُّ عَسِير؛ لِارْتِبَاطِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيّاً عِنْدَمَا يُتْلَى كِتَابُ اللهِ تَعَالَى؛ فَمَنْ لَمْ يُرْزَقْ حَفْظَ آيِهِ، وَمُدَاوَمَةَ وَمُطَالَعَةَ جَلَالِهِ، أَوْ بَحْثَ قَضَايَاهُ وَأَقْوَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ أُسْتَاذَ جَامِعَةٍ، فَسَتَجِدُهُ مَقْبُوضَ اللِّسَانِ، مَنْزُوعَ الْبَيَانِ، خَطؤُهُ أَكْثَرَ مِنْ صَوَابِهِ، يَتَتَعْتَعُ فِيْهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ الْقَرَاءَةَ بَعْدُ، وَمِثْلُ هَذَا يُقَوِّمُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالدِّيْنِ كِلَيْهِمَا بِمَا عَلِمَاهُ وَحَفِظَاهُ عَنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَالشِّعْرُ فِي قَرَاءَتِهِ أَكْثَرُ مُعَانَاةً، وَأَشَدُّ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ؛ فَأَحْيَاناً يَلْزَمُهُ تَسْكِينُ الْمُتَحَرِّكِ، أَوْ تَحْرِيْكُ السَّاكِنِ، أَوْ قَصْرُ المَمْدُوْدِ، أَوْ مَدُّ الْمَقْصُورِ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى التَّنَاسُقِ النَّغَمِيِّ الْمَنْشُوْدِ لِلْبُحُورِ الشِّعْرِيَّةِ، وَهَذا الْأَمْرُ لَيسَ مَعْنِيّاً بِهِ كُلُّ الْمُتَخَصِّصِينَ فِي اللُّغَةِ، إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ خَاصَّةُ الْمُتَخَصِّصِينَ الَّذِينَ يَزِنُوْنَ الْكَلَامَ وَزْناً بِحَيْثُ لا يَنْبُو حَرْفٌ بَلْ حَرَكَةٌ، فَيَكْشِفُوْنَ مَوْزُوْنَهُ مِنْ مَكْسُوْرِهِ، وَيُبَيِّنُونَ شِعْرَه مِنْ مَنْثُوْرِهِ، وَصَالِحَهُ مِنْ طَالِحِهِ، فَيَرُدُّوْنَ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ، وَالْخَطَأَ إِلَى صَوَابِهِ.
هَذَا وَيَقَعُ بَعْضُ الْمُتَخَصِّصِينَ فِي الْخَطَأ عِنْدَمَا يَتَعَامَلُونَ مَعَ النَّصِّ الشِّعْرِيِّ الْمَكْتُوبَ وَكَأَنَّهُ قِطْعَةُ خَشَبٍ، لَا قِطْعَةُ خَزَفٍ فَلَا يُرَاعُونَ مَا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ مِنْ حَسَاسِيَّةِ الشِّعْرِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْوَزْنُ، وَالْخَطَأُ الوَاقِعُ فِيهِ هَؤُلَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
1ــ خَطَأٌ فِي التَّشْكِيلِ وَالضَّبْطِ الظَّاهِرِيِّ؛ كَأَنْ يُرْفَعُ الْمَنْصُوْبُ أَوْ يُجَرَّ الْمَنْصُوْبُ، وَهَذَا النَّوْعُ نَادِرُ الْحُدُوثِ، وَإِنْ وَقَعَ فَسَهْواً وَسُرْعَانَ مَا يُتَدَارَكُ.
2ــ خَطَأٌ فَنِيٌّ وَذَلِكَ كَائِنٌ عِنْدَمَا يَتَعَاطَى هَؤُلَاءِ النَّصَّ وَكَأَنَّهُ نَصٌّ عَادِيٌّ دُوْنَ مُرَاعَاةٍ لِمَا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ مِمَّا يُحْدِثُ إِهْمَالُهُ نَشَازاً فِي مُوْسِيْقَى الشِّعْرِ، وَهَذَا يَقَعُ فِيهِ مَنْ تَصَدَّى لِلْأَمْرِ دُوْنَ أَنْ يَكُوْنَ عَلَى دِرَايَةٍ تَامَّةٍ بِعِلْمَي الْعَرُوْضِ وَالْقَوَافِي، وَإِنْ وَقَعَ فَيَكُونُ وُقُوْعُهُ جَهْلاً؛ لِأَنَّ فَاقِدَ الشَّيءِ لَا يُعْطِيْهِ، وَلَا يُتَدَارَكُ هَذَا الْخَطَأُ إِلَّا إِذَا قَيَّضَ اللهُ لَهُ غَيُوراً عَالِماً بِأَمْرِهِ، فَإِذَا شَرَعَ فِي تَغْيِيرِهِ يَكُونُ الْقِيَاسُ بِمَثَابَةِ الشُّذُوْذِ، وَالشُّذُوْذُ بِمَثَابَة الْقِيَاسِ؛ لِكَثْرَةِ مَا أَلِفَتْهُ آذَانُ الْمَعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي وُجْدَانِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلِسَانُ حَالِهِمْ إِنَّا وَجَدْنَا عُلَمَاءَنَا كَذَلِكَ يَنْطِقُونَ.
وَقَدْ تَوَرَّطَتْ وَزَارَةُ التَّرْبِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِ الْمِصْرِيَّةِ فِي ذَلِكَ؛ فِفِي كُلِّ عَامٍ دِرَاسِيٍّ يَعْلُوْ الضَّجِيْجُ بِسَبَبِ إِشْكَالِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَهِمَهَا مَنْ فَهِمَهَا، وَجَهِلَهَا مَنْ جَهِلَهَا، وَفِي الصَّفِّ الثَّانِي الْإِعْدَادِيِّ تُقَرِّرُ عَلَيْهِ احْتِفَاءً وَاحْتِفَالاً بِمُنَاسَبَةِ رُجُوعِ سَيْنَاءَ إِلَى حِضْنِ أُمِّهَا مِصْرَ نَصّاً شِعْرِيّاً لِلشَّاعِرِ (يُوْسُفَ خُلِيف) بِعُنْوَانِ (أَرْضُ الْفَيْرُوْزِ) يَقُوْلُ فِيْهِ:
1ـ سَيْنَاءُ عَـــــرُوْسٌ
بَدَوِيَّةْ |
|
سَيْنَاءُ خُيُوْلٌ
عَرَبِيَّةْ |
2ـ سَيْنَاءُ حَمَامـــَاتٌ
بِيْضٌ |
|
وَسَنَابِلُ قَمْحٍ
ذَهَبِيَّةْ |
3ـ وَجَدَاوِلُ مِنْ عِطْرٍ
رَقْرَا |
|
قٍ فَوْقَ ضِفَافٍ
وَرْدِيَّةْ |
4ـ سَيْنَاءُ
مَنَـــــاجِمُ فَيْرُوْزٍ |
|
وَكُنُوْزُ عَقِيْقٍ
سِحْرِيَّةْ |
5ـ سَيْنَاءُ تَمِيْمَةُ
وَادِي النِّيْــ |
|
ــلِ تَعُوْدُ إِلَى صَدْرِ
الْوَادِي |
6ـ سَيْنَاءُ تَعُوْدُ
وَسَاقِي النُّوْ |
|
رِ يَصُبُّ كُؤوْسَ
الْأَضْوَاءِ |
7ـ وَحَمَامٌ أَبْيَضُ
مِثْلُ النُّوْ |
|
رِ يُرَفْرِفُ بَيْنَ
الْأَحْيَاءِ |
8ـ وَغُصُوْنٌ مِنْ شَجَرِالزَّيْتُوْ |
|
نِ تُغَطِّي وَجْهَ
الصَّحْرَاءِ |
9ـ وَطُيُوْرٌ خُضْرٌ
فَوْقَ الْأُفُــ |
|
ــقِ تُحْيِي ذِكْرَى
الشُّهَدَاءِ |
10ـ وَغِنَاءٌ فَوْقَ
شِفَاهِ الْحُوْ |
|
رِ يُحْيِي أَغلَى
الْأَسْمَاءِ |
وَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ: وَأَيْنَ تَكْمُنُ الْمُشْكِلَةُ إِذاً؟
وَالْجَوَابُ: تَكْمُنُ الْمُشْكِلَةُ فِي ضَمِّ (فَاءِ) كَلِمَةِ (الْأُفُــقِ) فِي الْبَيْتِ التَّاسِعِ، وَتَسْكِينِ (حَاءِ) كَلِمَةِ (يُحْيِي) وَكَسْرِ يَائِهَا الأُوْلَى دُوْنَ تَشْدِيدِهَا فِي الْبَيْتَينِ التَّاسِعِ وَالعَاشِرِ.
وَلَهُ أَنْ يُرْدِفَ: وَمَا الصَّوَابُ فِيهِمَا؟
فَأَقُولُ: الصَّوَابُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَتَانِ: (الْأُفْــقِ) بِتَسْكِينِ الْفَاءِ، (يُحَيِّي) بِفَتْحِ (الْحَاءِ) وَتَشْدِيدِ أُوْلَى الْيَائَيْنِ.
التَّقْطِيْعُ الْعَرُوْضِيُّ:
هَذِهِ الْأَبْيَاتُ مِنْ مَوْزُوْنِ بَحْرِ الْمُتَدَارَكِ الْمُتَرَاقِصِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ الشُّعَرَاءُ الْمُحْدَثُوْنَ بَعْدَمَا تَصَرَّفُوا فِيْهِ وَأَكْثَرُوا مِنْ زِحَافُ الْخَبْنِ (وَهُوَ حَذْفُ الثَّانِي السَّاكِنِ)، وَعِلَّةُ الْقَطْعِ (وَهِيَ حَذْفُ آخِرِ الْوَتَدِ الْمَجْمُوْعِ وَتَسْكِيْنُ مَا قَبْلَهُ) وَهَذَا الْبَحْرُ يُنَاسِبُ التَّغَنِّي بِالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ مَعاً وَمِنْهُ رَائِعَةُ نِزَار:
جَلَسَتْ
وَالْخَوْفُ بِعَيْنَيْهَا |
|
تَتَأَمَّلُ
فِنْجَانَ الْمَقْلُوْبْ |
قَالَتْ يَا
وَلَدِي لَا تَحْزَنْ |
|
فَالْحُبُّ
عَلَيْكَ هُوَالْمَكْتُوْبْ |
9ـ وَطُيُوْرٌ
خُضْرٌ فَوْقَ الْأُفْــ |
|
ــقِ
تُحَيِّي ذِكْرَى الشُّهَدَاءِ |
10ـ
وَغِنَاءٌ فَوْقَ شِفَاهِ الْحُوْ |
|
رِ يُحَيِّي أَغُلَى الْأَسْمَاءِ |
فَيَكُونُ وَزْنُهُمَا
الْعَرُوْضِيُّ هَكَذَا:
وَطُيُوْ/ رُنْخُضْ/ رُنْ
فَوْ/ قَلْأُفْــ |
|
قِتُحَي/ ىِي ذِكْ/
رَىشْشُهَ/دَائِي |
///5 ــ /5/5 ــ /5/5 ــ
/5/5 |
|
///5 ــ /5/5 ــ /5// ـ
/5/5 |
فَعِلُنْ ــ فَاعِلْ ــ فَاعِلْ
ــ فَاعِلْ |
|
فَعِلُنْ ــ فَاعِلْ ــ
فَاعِلُ ــ فَاعِلْ |
وَغِنَا/ ءُنْ فَوْ/ قَ
شِفَا/ هِلْحُوْ |
|
رِ يُحَيْ/ ىِي أَغْـ/
لَلْأَسْ/مَائِي |
///5 ــ /5/5 ــ ///5 ــ
/5/5 |
|
///5ـ /5/5 ـ /5/5 ــ /5/5 |
فَعِلُنْ ــ فَاعِلْ ــ
فَعِلُنْ ــ فَاعِلْ |
|
فَعِلُنْ ــ فَاعِلْ ــ
فَاعِلْ ــ فَاعِلْ |
ــ فَلَوْ حُرِّكَتْ فَاءُ (الْأُفْــقِ)، وَلَمْ تُسَكَّنِ الْفَاءُ، وَسُكِّنَتْ حَاءُ (يُحَيِّي) وَلَمْ تُشَدَّدْ أُوْلَى اليَائَينِ مَا اسْتَقَامَ الْوَزْنُ السَّابِقُ قَطُّ، وَلاجْتَمَعَ مُتَحِرِّكَانِ فَقَط يَتْبَعُهُمَا سَاكِنٌ فِي مَطْلَعَي الشَّطْرَينِ الْأَخِيرَينِ مِنَ الْبَيْتَينِ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ، الْأَمْرُ الَّذِي لَيسَ عَلَيهِ بَحْرُ الْمُتَدَارَكِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا يَبْدَأُ بِمُتَحَرِّكٍ يَتْبَعُهُ سَاكِنٌ (/5)، أَوْ يَبْدَأُ بِثَلَاثَةِ مُتَحَرِّكَاتٍ يَتْبَعُهَا سَاكِنٌ أَيْضاً (///5).
التَّوْصِيَاتُ:
أُنَاشِدُ إِخْوَانِي مُعَلِّمِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَنْطِقَ تَلْكَ الْكَلِمَاتِ إِلَّا كَمَا نَطَقَهَا قَائِلُوْهَا؛ لِئَلَّا يَخْتَلَّ الْوَزْنُ اخْتِلَالاً لَا كَبِيْراً وَلَا صَغِيْراً، فَتَنْعَقِدُ عَلَيْهِ آذَانُ طُلَّابِنَا وَطَالِبَاتِنَا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق