تُعد صناعة الفخار من الصناعات الشعبية القديمة، ويعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وتعد مدينة غزة من أوائل المدن الفلسطينية التي عملت في مجال صناعة الفخار، وفي وقت لاحق تبعتها مدينة الخليل، ومن ثم مدينة طولكرم، وباتت صناعة الفخار التاريخية في غزة تواجه صعوبات متعددة، وإهمالاً واضحاً ومستمراً يهدد بانقراضها واندثارها، ويُوقف الأجيال القادمة عن الاستمرار في ممارستها.
وتشتهر مدينة غزة على وجه الخصوص بصناعة الفخار منذ عقود طويلة، ويمثل مصنع "الفواخيري" أحد أكبر المصانع وأقدمها في القطاع، وكانت تُصدَّر الأواني الفخارية إلى مدن الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، حتى مطلع 2000، أما الآن فالعمل مقتصر داخل الأسواق المحلية.
بحركات خفيفة وحرفية عالية تتنقل أيدي الشاب إبراهيم عطا الله على قوالب الطين، ليشكّل منها أوان فخارية، تروي حكايات من عبق وتراث مهنة الفخار القديمة، التي ما زالت تقاوم وتصارع في فلسطين من أجل البقاء بجانب الصناعات المعاصرة والحديثة، التي فرضت نفسها بديلاً عن الفخاريات في كل شيء تقريباً.
![]() |
الشاب عطا الله |
في حديث لـ"باث أرابيا" يقول عطا الله "إن الفخار كان في السابق يستخدم لأغراض متعددة منها تخزين المياه والزيت والزيتون والخبز وغيرها، ولكن اليوم استُبدِل بالأدوات البلاستيكية والزجاجية".
ويُضيف: "عائلتي تعمل في مهنة الفخار منذ مئات السنين واشتهرت بها، لكن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها قطاع غزة ساهمت في تراجعها كثيراً".
وعن طريقة وكيفية تصنيع الفخار يقول: "نعمل على إحضار الطين من مناطق معينة شرق القطاع في فصل الصيف فقط، ونقوم بتنشيفه وتجفيفه، ومن ثم نغمره في بركة مياه، ونقوم بتذويب الطين وغربلته، حتى يصبح صافياً بشكل تام".
وفي حال الحصول على الطين الأبيض، تُضاف كمية من الملح العادي مع الماء بنسبة معينة، مشيراً إلى أنه في فصل الشتاء توضع قوالب الطينة الجاهزة في أماكن خاصة للتخزين وتغطى بالأغطية المناسبة، وفي المرحلة التي تليها يُنقل الطين المذوّب والعمل على تجفيفه، ومن ثم وضعه في عجّانة خاصة ليخرج على هيئة قوالب طين جاهزة للتشكيل ويستلم الحرفيون بعدها القوالب من أجل تصنيعها وتشكيلها.
يضع عطا الله قالباً من الطين على ماكينة الدولاب التي تدور بشكل مستمر، وبأنامله الكادحة يشكّل أصنافاً مختلفة من الأواني الفخارية، ويصنع حكايات تراثية نادرة الوجود، ويروي قصة قديمة عن عشقه وعائلته للفخار، ويبدأ بتمليسه بالمياه وخلال تلك العملية يقوم بتشكيل القوالب التي يريدها، وينتج العمال من هذه القوالب القِدر التي تستخدم في طبخ الأرز على البخار والنار، والزبادي التي يُطبَخ الجمبري وتُعد السلطات بها، وأباريق المياه وقوارير الزراعة وبعض المشغولات الخاصة بالزينة وغيرها الكثير من المصنوعات.
وبحسب عطا الله، فإن مهارة العاملين في مرحلة التشكيل لها دور مهم في عملية إنتاج القطع والمشغولات الفخارية، وليس من الصعب التحكّم بالقوالب الطينية، فإضافة القليل من الماء يكفي لأن تصبح سهلة في التشكيل وناعمة في اللمس، وكل ما في الأمر أن عملية التشكيل بحد ذاتها تحتاج إلى الفن والمهارة.
وبعد عملية التشكيل، توضع المنتجات والمشغولات من الأواني الفخارية على رفوف خاصة وفي جو مناسب، وتترك مدة خمسة أيام في فصل الصيف وضعفها في فصل الشتاء وتنتقل بعد هذه المرحلة إلى التسخين، فتوضع تلك المشغولات داخل فرن التنور، وتبدأ عملية التسخين بواسطة إشعال التنور لخمسة أيام متواصلة.
تُحرَق الفخاريات وسط حرارة عالية تصل تقريباً إلى 800 درجة مئوية، وفي هذه المرحلة يتماسك الفخار، ويترك الفرن يوماً واحداً كي يبرد التنور وكذلك الأواني الفخارية، ثم تخرج القطع الفخارية وتنقل إلى المحال والبسطات الخاصة ببيع الأدوات الفخارية.
ويشتكي عطا الله وعدد من أرباب هذه المهنة من عدم تصدير منتجاتهم الفخارية، إضافةً إلى الإهمال الحكومي لمهنة تمثل جزءاً من تراث فلسطين الذي يمتاز به قطاع غزة، آملين أن تعود هذه المهنة إلى مجدها الأول، وعهدها الذي كان.
ويخشى صانعو الفخار والعاملون فيه من اندثاره، رغم ما تحظى به من رواج بسيط من قبل المواطنين وهواة الأواني الفخارية، وغيرهم ممن يدخلونها في مجالات عدة، كأغراض الزينة والأعمال الفنية، خصوصاً أن المصانع الموجودة اليوم هي أربعة مصانع فقط من أصل 80 مصنعاً كانت في قطاع غزة منتصف القرن الماضي، وأن من يعمل في تصنيع الفخار هم عدد قليل جداً.
وجودك في مصنع للفخار أو محال بيعها يعني أن تطلع عن قرب على مهنة تراثية قديمة عرفها الأجداد منذ القرن الرابع قبل الميلاد، نتيجةً فعلية لحاجة الإنسان الطبيعية في حفظ الطعام والمياه معتمدةً على نوع معين من الطين، وتطورت عبر الأزمنة والعصور، وحين تسير وسط مئات المنتجات الفخارية التي يواجه صانعوها صعوبة بالغة في بيعها يعني أن هذه المهنة بالفعل ما زالت تكافح وتصارع من أجل البقاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق